top of page

تمنت الطفلة على والدها كي يصحبها الى احد الحفلات العامة، ثم راحت تشارك في الطرب والغناء، وكان اول اجر تقاضته روبية هندية، اخذت منها ما يعادل 6 فرنكات، هي والفرقة كلها. 

 

بعد ذلك فكر حسن افندي حلمي صاحب كشك سجاير في محطة ابو الشقوق، ان يقيم ليلة تحييها الصغيرة، يكون الدخول اليها بالاجر. 

 

وتوالت بعد ذلك الحفلات بأجر، وصارت الصغيرة، ترى الفلوس بعد ان كانت من قبل تغني بطبق من المهلبية يعدها به والدها. 

 

وراحت هذه الليالي تمتد الى القرى المجاورة، ثم البنادر والمدن. وخلال هذه الفترة تعرفت الى طفل مثلها يتوسط فرقة موسيقية اخرى يدعى رياض السنباطي.

وعلى الطريق نفسها، تعرفت الى محمد القصبجي الذي انقطعت اخباره عنها، ثم عادت والتقت به عام 1924 فوضع اول لحن لها " قال ايه حلف ما يكلمنيش". 

وبلغ ما لحنه لها رياض القصبجي 220 لحنا اشهرها " كنت اسامح وانسى الاسية" "رق الحبيب" "يللي ودادك صفالك" " ليه تلاوعيني" " ياما ناديت" الخ..

 

قبل ذهابها الى المدينة الكبيرة، شاءت الاقدار ان تتعرف الى الشيخ زكريا احمد فاستولت على حواسه عندما سمعها، وقال انه من يومها وهو اطرش لا يسمع في الدنيا سوى صوتها. 

وراح يهديها الالحان ويقيم لها الحفلات الغنائية.

 

وعندما استقر لها المقام في القاهرة، سمعت باسماء لها بريق في عالم الموسيقى والغناء، امثال الخلعي، القصبجي، محمود رحمي، وداود حسني.. وكلهم وقفوا امام الفنانة الجديدة لمؤازرتها.

 

عام 1924 وضع القصبجي لها لحن " ان كنت اسامح وانسى الاسية" الذي كان نقطة تحول بالنسبة اليها، وبدأت الالقاب تلازمها : كروانة الشرق، اميرة الانشاد، الساحرة، البلبلة، واخيرا كوكب الشرق. 

وظل الشعب متمسكا بلقبه لها " ست الكل" ومناداته لها بـ "الست".

 

وفي نفس العام تعرفت على الشاعر احمد رامي القادم حديثا من باريس، الذي احبّها من اول لقاء، لكنه لم يلق منها اية مبادلة لهذا الحب، مع انها كانت تميل الى مجالسته ومنادمته، وكانا يخصصان معا يوم الاثنين، يقضيانه وحدهما وكان هذا اليوم من كل اسبوع يسمى " يوم ام كلثوم" و"يوم رامي. 

ومع انه تزوج الا انه لم يلبس خاتم الزواج طوال حياته، بل كان يضع في اصبعه خاتما نقش عليه اول حرفين من اسمها، والذي ظل في اصبعه 42 سنة.

 

عام 1926 بدأت تظهر معالم شخصيتها وتوضّحت لديها الجدية، كا تبين احساسها المرهف. واطلق عليها الشعب لقب "سومة" تحببا وتكرما.

عام 1928 غنّت "افديه ان حفظ الهوى" " لي لذة في ذلتي وخضوعي" وغيرها من القصائد اضافة الى مونولجات وطقاطيق مثل  " انا على كيفك" " يا ستي ليه المكايدة" وغيرها مما نال شهرة وتقبلا لدى الجماهير. 

 

حتى ان منيرة المهدية اشهر مطربة في ذلك الزمان راحت تغني بعض اغانيها. مما جعل صاحب اسطوانات جرامافون التي احتكرت طبع اغاني أم كلثوم بأن يبعث لها انذارا رسميا للكف عن غناء أغنيات ام كلثوم.

 

عام 1930 غنّت لاحمد شوقي " امانا ايها القمر المطل" ولرامي " حبيت ولا بانش علي" واول لحن للسنباطي " لما انت ناوية تهجريني" الذي بدا بعده سلسلة الحان مبدعة.

 

عام 1931 كان عام الزخم الفني والعطاء: "اراك عصي الدمع" " اللي حبك يا هناه" - بين ذل الهوى وعزة نفسي" - يللي شغل البال -

وفي هذا العام توفي والدها، وانضم الشيخ زكريا احمد الى تختها، كما قامت برحلة الى لبنان وسوريا وفلسطين، واستقبلتها بيروت استقبال الملكات بكل ما للكلمة من معنى.

 

عام 1934 ابرمت اتفاقا مع شركة ماركوفون، لتغني من اذاعة الحكومة المصرية فغنّت لاول مرة يوم الخميس في 31 مايو واصبح أول خميس في الشهر عندها هو اليوم المختار لاقامة حفلاتها.

 

عام 1936، اشتركت مصر في معرض السينما الدولية المقام في مدينة البندقية، وكان الفيلم من بطولتها واسمه وداد.

 

مع حلول الاربعينات ادركت ان احمد رامي لن يستطيع ان يقوم وحده بالحمل كله، فطلبت من بيرم التونسي ان يكتب لها فوضع : الامل - انا بانتظارك -  اهل الهوى - حلم - حبيبي يسعد اوقاته - الآهات - كل الاحبة اتنين اتنين - الاولة في الغرام - انا وانت. 

قام زكريا احمد بتلحينها وألّف مع بيرم ثنائيا فنيا قدّم اعمالا عظيمة. 

ويقول الشيخ زكريا انه خدم في الآهات جميع مقامات صوت ام كلثوم، الذي ظل طوال حياته يعتبرها اعظم اغنية. 

وختم هذا الثنائي جهودهما الفنية معها بلحن هوّ صحيح الهوى غلاب.

 

وسط هذا الخضّم من الحركة والانتاج والعمل، وبعد ان ملأت آهاتها سماء الامة العربية بأسرها، كانت هي مازالت تشعر بالوحدة، فهي تعود بعد كل عمل الى بيتها وحيدة خالية اليدين.

فقررت الزواج.. واختارت محمود الشريف وكيل نقابة الموسيقيين، وصاحب الحان عدة، ونشيد الله اكبر، فلم يصدّق حتى تمت خطبته عليها، فأعلن انه كان يكتم حبها في قلبه.. 

غير ان الناس لم تدع ام كلثوم تستمر في تلك الخطوبة، وهاجمها كل محبيها سرا وعلنا، حتى رضخت اخيرا وفسخت خطوبتها منه.

 

بعدها مرضت بالغدة الدرقية، وصلّى لها كل العرب كي تشفى، وعرضت الحكومة الاميركية ان تعالجها في مستشفيات اميركا، فوافقت وتمّت معالجتها في مستشفى البحرية الاميركية، ووقف الكبر اطباء العالم على علاجها، ولكنهم كلهم تهيبوا من اجراء عملية لها لازالة الغدة، لان الامر كان يتعلق بلمس عنقها واوتارها الصوتية.. وهذا شيء على قدر كبير من الاهمية. 

فقرروا الاستمرار بالعلاج حتى شفيت وعادت، وهلّل لشفائها الشرق والغرب.. وقال العقاد في ذلك:

هلّل الشرق بالدعاء كوكب الشرق في السماء

ام كلثوم يا بشيرا من الله بالرجاء

وقال الدكتور سعيد عبده

عيشي وصحّي وخلّي العيا لينا

عيشي وصحّي وعلّي الصوت وغنّينا

عيشي وصحّي وباركي في ليالينا

ومن آهاتك ومن دمعك ومن روحك

ملّينا نكتب آيات المجد ملّينا

 

عام 1952 زارها المغني الفرنسي شوفالييه للتعرف عليها، ولم يصدق ان التي تربعت على عرش الغناء هي هذه الفتاة الشابة.

 

في نفس العام قامت ثورة يوليو، وظن الناس ان الثورة ستعاقبها لانها غنّت للملك، غير ان العكس كان صحيحا، وسارعت الثورة الى تقديم كل تقدير واحترام لفنها، ولها.

 

عام 1954 طلبها الدكتور حسن السيد الحفناوي للزواج ووافقت. وغنّت في نفس العام اغنية يا ظالمني، وفي العام الذي يليه "دليلي احتار"

 

عام 1956 قدّمت نشيد والله زمان ياسلاحي.. وتبرّعت بعشرة الاف جنيه لصالح تعمير بور سعيد بعد العدوان الثلاثي..

 

في العام الذي يليه دعيت لحضور افتتاح البرلمان المصري.

 

عام 1958 دعتها موسكو ليجري لها الاطباء هناك فحوصات شاملة. وغنت: هجرتك - شمس الاصيل - عوّدت عيني على رؤياك - وثورة الشك.

 

عام 1959 منحتها الحكومة اللبنانية وسام الارز الوطني، ووصفتها مجلة الكواكب : انها ليست صوتا ولحنا فقط.. بل دنيا بأكملها. 

وقالت عنها الاهرام.. كأن صوتها آلة موسيقية جديدة اضافتها الى الموسيقى.

 

جريدة الدايلي ميرور اللندنية، كتبت ان صوتها سلاح سري للدعاية لمصر.. يجذب اليها الملايين من الشرق.

 

مجلة لايف الاميركية كتبت:

ان تغييرا يطرأ على حياة الناس في الشرق الاوسط، ويشلّ نظامهم، مرّة واحدة كل شهر، ودائما يوم الخميس الساعة 10، فيتوقف المرور في احياء القاهرة، وتختفي طاولة النرد من مقاهي الدار اليضاء، ويترك اغنياء العراق موائد القمار، وينزوي شيوخ السعودية داخل خيمهم، والجميع آذان تنصت لسماع صوت ام كلثوم ينساب من اذاعة القاهرة.

 

عام 1961 غنت : انساك، حيرت قلبي معاك، ظلمنا الحب، اروح لمين، شارك بليغ حمدي بوضع الحان بعضها.

 

عام 1963 غنت: لسه فاكر، الحب كده، وفي الستينات ايضا اطلقت اروع الاغاني منها: بعيد عنك - سيرة الحب - لا ياحبيبي - اقولّك ايه عن الشوق - فات المعاد - للصبر حدود - حسيبك للزمن - وقاد الفرقة الموسيقية رياض الصنباطي لاول مرة في اغنية طوف وشوف.

 

التقت عام 1964 مع موسيقار الجيل محمد عبد الوهاب، في اول لحن منه لها : انت عمري الذي شغل الدنيا فترة طويلة، وما زالت هذه الاغنية، تصنف مع الاغنيات العالمية.

 

عام 1967 اصاب الذهول كل شيء، وتجمّدت الكلمات على الشفاه، ولم يعد لام كلثوم او لاي احد آخر مكانا مميزا، فقد حصلت النكسة وخسرت مصر ومنيت والعرب بهزيمة كبيرة، فصمتت هي مع الصامتين وبكت مع الباكين. 

وعندما انتفض الشعب والدولة، انتفضت هي الاخرى، وراحت تعمل لمصر والمجهود الحربي، وعادت دورة الفلك تدور من جديد. 

وغزر الانتاج من اجل القضية، وجابت بلاد العالم من اجل مصر، وجمعت بيدها المال للبلد. 

 

غنت في باريس، وارسل لها الجنرال ديغول برقية تهنئة وشكر. 

 

شارك شعراء عرب كثر في كتابة اغانيها: امثال الهادي آدم من السودان (اغدا القاك) ونزار قباني من سوريا (اصبح عندي الآن بندقية) وجورج جرداق من لبنان (هذه ليلتي) وراحت الدول العربية تتنافس في تكريمها.... 

فصلّى الناس في المسرح عندما غنت في السودان.... 

وفي الكويت رشّوا عليها العطر.... 

وخصّصت الاذاعة اليابانية برنامجا عن زيارتها للكويت استمر 12 دقيقة.... 

كما استقبلها حاكم الكويت.... 

ومنحتها حكومة الباكستان وسام نجمة الامتياز...... 

وقدم لها اهل فاس في المغرب شمعة خضراء بطول متر، مرصعة بالذهب رمزا للمحبة والاعجاب..... 

وحشدوا لها في مراكش 1500 راقص وراقصها لاستقبالها بالرقص الشعبي..... 

وفي تونس احاطوها على المسرح بزهر القرنفل قيل ان عدد الازهار تجاوز 300 الف زهرة، كما وزعوا مناديل تحمل صورتها ومنحتها تونس وسام الجمهورية، وعزف لها النشيد الوطني استثناء، واطلقت الحكومة اسمها على احد شوارع العاصمة.

 

وفي باريس بدت صورتها بالحجم الطبيعي في معظم شوارع العاصمة مضاءة بأنوار النيون.

 

يقول عنها العقاد، انها ظاهرة لا تتكرر، ويقول سامي الشوا انه لولاها لما ظلّ للموسيقى العربية طابعها التقليدي، ويقول محمد عبد الوهاب، انها المغنية الوحيدة التي جمعت بين القوة والعاطفة، والحساسية في صوتها.

 

ام كلثوم موهبة واستعداد ولقاء وادب وثقافة وشعور ووجدان وفرح والم وذكاء واناقة. وهي اليقظة والاحساس.

 

في يناير 1973 بكت فجأة، وهي تغني على المسرح، وفي فبراير من نفس العام الغت حفلتها المقررة، ولم تعد تظهر حتى كتب انيس منصور في صحيفة الاخبار 22 يناير 1975

" وحشتنا ام كلثوم، هذه الابهة والفخامة والدلال والسمو، هذه السيدة التي تقف باعتزاز وتتيه اليها الرؤوس وتغمض العيون، وتستسلم الآذان.. فتقول ما يحلو لها.. فلا قال قبلها احد.. انها فريدة الغناء والاداء من خمسي عاما ولمئات اعوام مقبلة".

3 فبراير 1975 انفرط العقد وانفطر القلب.

وذهبت الى اكرم جوار.

بكت مستشفى المعادي، كما لم تبك من قبل، وترك المرضى اسرّتهم وجروا في ردهات المستشفى، لا يريدون ان يصدقوا وهم اقرب الناس الى المأساة، حتى الاطباء اجهشوا بالبكاء.

 

قطعت الاذاعات في مصر والعالم اجمع برامجها لتعلن النبأ.

 

نعاها وزير الثقافة في مصر، ولم بيق في العالم العربي حاكما ولا محكوما الا نعاها وبكى عليها..

 

مشت مصر كلها والعالم العربي في جنازتها

 

كانت ظاهرة في الحياة وبقت ظاهرة بعد الوفاة.

حقوق النشر محفوظة للموسم

 

 

أم كلثوم: ظاهرة لم تتكرر بعد

هي سرب من الطيور الرقيقة ترفرف على كل قلب، وتروح وتجيء من المحيط الى الخليج.. بل حول الكرة الارضية بأسرها.. استقرت واستمرت وسوف تبقى وتستمر في كل بيت.

انها جزء من تاريخ الحب والكرامة والعزة القومية لكل عربي.

انها المحبة والخير والعلامة والرمز.

 

ولدت أم كلثوم في قرية طماي المهايرة من اعمال الدهقلية بمصر، والدها السيد البلتجي، كان يعمل مؤذنا في مسجد البلدة ويشارك في انشاد التواشيح الدينية في الحفلات العامة. امها فاطمة المليجي من النساء المصريات البسيطات.

 

كانت وهي طفلة، تقضي ليالي الصيف تغرّد من فوق سطوح البيت، وكان والدها يصاحبها بالوقع على آنية الدار، وكان الجيران يتجمعون على سطوح منزلهم ليسمعوا شجوه غناءها.

We dig deep in the news to uncover the roots

All Rights Reserved© Al Mawsam

bottom of page