كان اول ظهور لها كمغنية في صالة ماري منصور في شارع عماد الدين في القاهرة، وكان صوتها الرقيق الحزين لا يستطيع ان يجذب اذن السامع غير انها استطاعت ان تستقطب الكثير من الساهرين الذين كانوا يردون الى الصالة لمشاهدة جمالها الثائر، مع ان وقفتها على المسرح كانت رزينة لا تأبه بصيحات السكارى وتأوهات المعجبين.
وصارت اسمهان اسما يردده الكثير من الذين لهم ميل الى الفن والطرب والطرف الكحيل.
في عام 1931 كتبت الصحف خبر زواجها من ابن عمها امير جبل الدروز حسن الاطرش وصارت اسمهان أميرة.. وعرف الناس لاول مرة انها من سلالة امراء آل الاطرش وان اخاها هو الموسيقار المشهور فريد الاطرش.
لم يمض عل هذا الزواج وقتا طويلا نالت طلاقها وعادت الى دنيا الفن، وفي عام 1939 اقتنع الموسيقار محمد عبد الوهاب انها اصلح من يؤدي معه اوبريت قيس وليلى فبرعت فيها خصوصا عندما تصل الى ذلك المقطع التي تقول فيه
ما فؤادي حديد ولا حجر لك قلب فسله يا قيس ما الخبر
وكان صوتها وعيناها الخضراوتين يعملون بالناس سحرا عجيبا كلما ظهرت على المسرح وغابت.
اتفق معها الدكتور بيضا صاحب شركة اسطوانات بيضا فون اشهر شركة اسطوانات في ذلك الوقت، بأن يحتفظ بحق ظهورها لاول مرة على الشاشة السينمائية، امّا عبد الوهاب فدفع لها مبلغ 500 جنيها مقابل غناءها دور ليلى واغنية محلاها عيشة الفلاح.
وكان اول فيلم ظهرت فيه تمثيلا وغناء انتصار الشباب حصلت فيه على اجر 1500 جنيها. وكان الفيلم الثاني غرام وانتقام الذي تقاضت عليه مبلغ 2000 جنيها.
وكانت هذه المرأة مسرفة في كل شيء خصوصا في شربها الخمر، وصلت معه حدا لم تسبقه اليه اية امرأة شرقية قبلها وربما بعدها. ( ما اقدرش اشوف الكاس فاضي وما اقدرش اشوف الكاس مليان).
وكان ذلك حقيقة فعلا، فقد ذكر شهود عيان عاصروها، انه لا يكاد ان يوضع القدح امامها حتى تحتسيه الى آخر قطرة ثم تعود وتملاه وهكذا دواليك..
فكانت قدرتها على احتمال الشراب لا كابح لها.. وكم من مرة ضمها مجلس واحد مع سيدات ورجال كانت تشرب هي وحدها قدر ما يشربه الجميع دون ان تتاثر او تنهار قواها او يبدو عليها اثر السكر.
وكم من مرة قضت لياليها في الشراب اثناء تصوير اول فيلمين لها، فتنام بعدها ساعتين او ثلاث ثم تقوم لتباشر التمثيل بنشاط اكبر من اي ممثل آخر.
وكان اسرافها بالتدخين لا يقل عن اسرافها بالشرب، غير ان العجيب ان صوتها الخلاب لم يتأثر ابدا.
كانت لا تطيق الغناء امام جمهور فيه نساء، وكانت تلعن الزمن الذي اجبرها على الغناء امام من هم اقل منها حسبا ونسبا.
كانت تنظر الى الرجال على انهم اطفال يمكنها تطويعهم كيف شاءت وتلهو بهم وتلعب معهم.. كانت تحس انها اقوى منهم غير انها لا تخفي ضعفها امام غيرها من النساء.
لما قامت ثورة الدروز بقيادة سلطان بالشا الاطرش كانت هي ما زالت طفلة صغيرة هربت بها والدتها مع اخويها فؤاد وفريد الى بيروت ريثما تستقر حالة الجبل ثم انتقلوا جميعا الى القاهرة.
في القاهرة نضب مورد المال ووقف شبح الجوع بالباب وبدأت الام تعمل بخياطة الملابس وشاءت الصدفة ان تلتقي بالاستاذ داود حسني الذي اقنعها باستغلال صوتها الشجي، ثم تعرفت على عازف الكمان سامي الشوا وبدأت الام احياء حفلات خاصة في المنازل.
ولكن عندما سمع داود حسني صوت الصغيرة امال تدندن اغنية لام كلثوم عرض ان يعلمها اصول الغناء، ولم تمض فترة وجيزة حتى سجلت اسطوانات لقاء مبالغ زهيدة. واطلق عليها حسني لقب اسمهان.
من عرف اسمهان احتار في فهمها..
واحتار في تصديقها وتكذيبها..
كانت كتلة من المتناقضات، تستطيع ان تكذب متى شاءت وبسهولة مطلقة.. وتستطيع ان تبكي وتضحك في وقت واحد.
كانت مزيجا من الخير والشر..
او من الخير والضعف لانها لم تكن شريرة بطبيعتها..
لكن الضعف كثيرا ما يؤدي بصاحبه لان يقوم بأعمال تضره او تضر غيره.
كان كل همها في فترة من الفترات الحصول على الجنسية المصرية، فاقترنت بعقد عرفي من المخرج السينمائي احمد بدرخان.. وكانت جنسيتها وقتذاك سورية فرنسية.
تقول امها عنها انها لا تحب، وما احبت يوما من الايام، رجلا..
وبقدر ما كانت كريمة مسرفة بحق نفسها كانت شحيحة بعواطفها.. لا تعطي منها الا القدر اليسير ومع ذلك فكثر هم الذين غبطوا انفسهم لفوزهم بحب اسمهان. ثم صحوا ليدركوا ان حب اسمهان لهم كان وهما كبيرا.
لم يكن من طبيعة تكوينها ان تسلّم قيادها لمخلوق، فقد كانت كالفرس الجامحة لا تطيق اي اسر لحريتها بل تريد ان تترك لنفسها العنان لتنتقي كما تشتهي ..
لعبت بالحب ومدت يدها للحب غير انها سرعان ما تسحبها ولم تكن تتقدم خطوة في هذا الاطار حتى تتراجع خطوتين.
كان الحب عندها ان تأخذ ما تستطيع من العواطف وتعطي اقل ما يمكن وهكذا مشت في حياتها وخلفت وراءها صرعى كثيرين.
لم يكن لديها وقتا للحب، كانت تؤمن بقرارة نفسها انها قصيرة الاجل، وكم كانت تردد ان حياتها ستنتهي في وقت قريب.
كانت تهوى الجمال في كل شيء.. الموسيقى الشراب الجيد، الزهر الجميل، العطر الجميل، وكان غروب الشمس يدمع عينيها. ونور القمر يحبس انفاسها.
فتن بها احمد حسني باشا، وكان رجلا يلفت النظر، فبهرت به اسمهان ولاول مرة شعرت بشيء يتحرك في قلبها، فقد عرف كيف ينساب بكياسة الى قلبها دون ان تجفل منه وتنفر، فاطمئنت اليه وسلمته زمام القيادة.
واحبها هو بلا تحفظ الا ما كان فرضه عليه منصبه العسكري، وادى ذلك الحب لتدخل اسمهان في سياسة مصر الداخلية وما كان يجري خلف كواليس السلطة عام 1940.
احبت المال لتنفقه، لم تكدس منه.
كانت هوائية كثيرة النزوات سريعة التقلب، وكان اشباع هواهاه وعواطفها ونزواتها زادها اليومي في هذه الدنيا.
كانت تغني لمزاجها وامام من تأنس لهم، الا انها كانت تتضطر للغناء امام الآخرين لتعيل نفسها.
انفقت بلا حساب حتى انه اشتد المرض يوما عليها ولم يكن معها المال لتشتري دواء.. فتعاون خادمها وخادمتها لشراء ما يلزم لها حتى تم شفائها.. ومرة قطعت الكهرباء عن دارها لتخلّفها عن دفع الفاتورة. وباتت ليلتها في الظلمة حتى تصرف خادمها الامين.
كانت برفقة شلة على طريق رأس البر فوصلت بهم السيارة الى مكان وهي تشدو قصيدة لابي العلاء
غير مجد في ملتي واعتقادي
حتى وصلت الى البيت الذي يقول
صاح هذه قبورنا تملا الرحب فأين القبور من عهد عاد
وفجأة تقلّصت عضلات وجهها وغشي صفاء عينيها رعب مباغت وتركت الورقة تقع من يدها.. واخفت وجهها بيديها كأنها رأت شيئا مفزعا..
والغريب انه بعد سنوات انحرفت السيارة بها في نفس المكان واسلمت الروح.
ما ان اقبل عام 1941 حتى شاع صيتها.
كانت لا تهدأ من اقامة الحفلات في المدن والارياف، وكان من احب اغنياتها منظومة لشاعر لبناني فقد شقيقه الوحيد فرثاه وبكاه بالفاظ هي قطرات من ذوب قلبه بعنوان انا والنار، ما غنتها مرة الا بكت وابكت السامعين.
وكانت تحب من عبد الوهاب طول عمري عايش لوحدي تسمعها وتبكي.
كما كانت شديدة الاعجاب بليلى مراد وام كلثوم.
كانت بريطانيا عام 1941 تجتاز احلك فترة من فترات الحرب، وكان الحلفاء قد نجحوا بالقضاء على رشيد عالي الكيلاني في الغراق ونشطوا الى تثبيت اقدامهم في الشرق الاوسط والقضاء على نفوذ المانيا.
تقول اسمهان ان المستر تابيير مدير قسم الدعاية والنشر في السفارة البريطانية تقدم منها يوما وهي في احد المطاعم وعرض عليها ان يكلمها في امر هام فيه منفعة لها ولبلادها.
وكان اللقاء في منزلها حيث سالها اذا كانت تود ان تعود الى جبل الدروز ولو بزيارة قصيرة.
وفي لقاء آخر جمعها مع مستر سمارت وقائد انجليزي اسمه روبرت بلوم، اتفقوا معها ان تسافر الى القدس بالطائرة فتقيم هناك ثلاثة ايام في فندق الملك داود حتى يقابلها رجل يعطيها تعليمات معينة. ثم تذهب بعد ذلك الى عمان وتدخل سوريا من حدود شرق الاردن. ووضعوا بحوزتها مبلغ اربعين الف جنيه لتوزيعها على قبائل البادية.
كان الحلفاء على وشك دخول سوريا ولبنان، وكان يهمهم بطبيعة الحال ان يطمئنوا الى الموقف الذي سيقفه منهم جبل الدروز، وكان الانجليز يعرفون حسن الاطرش حامي الجبل الذي ما زال يحبها وان عمها سلطان باشا وعبد الغفار باشا يحترمان رأيها.
في هذه السفرة تعرفت لاول مرة بالآنسة ماري قلادة فنشأت بينهما صداقة حميمة دامت حتى الموت اذ لقت الصديقتان حتفهما معا على طريق البر بعد عدة سنوات.
وفّقت اسمهان باداء مهمتها في جبل الدروز، واقنعت العشائر بالتخلي عن حكومة فيشي والانضمام الى الحلفاء، الذين تمكنوا من دخول سوريا ولبنان والقضاء على كل اثر لنفوذ المحور.
في زياراتها بعد ذلك الى القدس وعمان وبيروت، كانت تصر على ان تظهر بمظهر الاميرة لا المغنية، وكانت تتصرف على ذلك النحو فتقيم المآدب المكلفة وتخصص يوما في الاسبوع لتوزيع الطحين مجانا على الناس بعد ان شح في السوق وارتفعت اسعاره.
لم تقم اية اهمية لدقة علاقتها بالانجليز، فكانت هذه العلاقة تسير من سيء الى اسوأ..
فهي لم تكن تعمل بمقتضى تعليمات المخابرات، التي تشرط الحذر والكياسة بالتصرف، والكتمان والولاء.. وكانت تكشف بتصرفاتها طبيعة علاقتها مع المخابرات البريطانية، وبسبب ذلك فقدت قيمتها لديهم، وثقتهم بها انها تستطيع ان تؤدي اي عمل يطلب منها بنجاح.
وكان اسرافها في الشراب، وعدم كتمانها اي سر من الاسرار، يشكل خطرا عليها بات يطوقها اكثر فأكثر.
ولما رأت ان الموازين اختلت مع البريطانيين، لم تر بأسا من ان تنتقل الى معسكر آخر، فقبلت دعوة لزيارة انقرة والاجتماع برجال المحور هناك.
غير ان المخابرات البريطانية علمت بهذا الاجتماع وانزلتها من القطار، ولم يدعوها تكمل رحلتها، ولكنهم اوهموها انهم بحاجة اليها ولا يستطيعون الاستغناء عن خدماتها.
في ذلك الوقت نشطت السياسة الفرنسية، وحاول رجالها استقدام اسمهان واغراءها، بعد ان شح البريطانيون يدهم عنها، فأشادوا لها دارا في محلة سرسق ببيروت، فاستطاعت منها ان ترجع حياة الابهة والفخفخة.
ولكن فرنسا لم تكن بثراء بريطانيا، وسرعان ما تهربت من طلبات اسمهان، فعادت سريعا الى ايام الاحساس بالحاجة.
ولم تجد بدا من العودة الى القاهرة، والاستفادة من اسمها ولقبها وشهرتها الاجتماعية والفنية. ولكن القدر كان يقف لها بالمرصاد، فماتت اثر حادث غامض بعد ان انقلبت بها السيارة على طريق رأس البر.
لم يترك الناس شيئا الاّ وقالوه عن اسمهان، فحكوا عليها الطالح والصالح، وقالوا فيها الحقائق والاكاذيب، وتباروا في تحليل شخصيتها غير ان ميولها المتقلبة زادتهم حيرة.
وفي كل الاحوال تبقى هذه الاميرة الطائشة، من افضل المطربات اللاتي تألقن بصوت شجي خلاب، طرب له رجال ونساء كثيرون.
يقولون انها اغتيلت.......
ويقولون انها انتحرت.....
على كل حال فالاكيد انها ماتت وخلفت ورائها عالما من الاسرار.
الموسم
حصريا - الموسم
جقوق النشر محفوظة للموسم
أسمهان ثورة فنية واجتماعية وسياسية
يحدث كثيرا في الحياة ان يمشي في عبابها اناس اقلّة يتركون بصمات واضحها على صفحاتها، ويمضون وتظل ذكراهم راسخة في القلوب والعقول والضمائر.
وتتناقل سيرهم اجيال بعد اجيال، من هؤلاء من يقدمون كنوزا من العلم والادب والفن او يهدون بطولات ومكارم اخلاق، ومنهم من يعلّمون الحنكة والدهاء، ومنهم من يرحل بعد ان يرمي دوامة من الحيرة وعلامات الاستفهام.
امال الاطرش المعروفة بالمطربة اسمهان جاءت الى هذه الدنيا ومضت فكان مجيئها ثورة وكان رحيلها ثورة، وبين القدوم والرحيل استطاعت هذه المرأة ان تقلب دنيا المجتمع رأسا على عقب وتقيمها متى شاءت وتقعدها متى شاءت.
خصوصا انها وهبت عوامل كثيرة ساعدتها ان تكون قادرة على اثارة الالباب. كيف لا وهي من سلالة الامراء وربة من ربات الجمال وتملك صوتا رخاميا ساحرا استطاعت بواسطته ان تثير العقول، وذكاء نادرا تأسر به من يريد ان يقع بالاسر.