عانى المسلمون من التغييرات الجديدة في المنطقة التي كان لها وقع ثقيل على مكاسبهم وسلطانهم، فتنادوا من مصر الى بغداد لمحاربة الصليبيين وطردهم.
وكان "فرسان تامبلار" من خيرة جنود الصليبيين، وكانوا يتقدمون المعارك ليخترقوا صفوف الاعداء. وكانوا فوق ذلك فرقة مستقلة اداريا استطاعت خلق هيكلية مالية فذّة للجيش الصليبي المتواجد في المنطقة. وبرغم ان عقيدتهم تستند على الفقر الشخصي فقد سيطروا على ثروات طائلة تعدّت حدود التبرعات وارتكزت على اجتهاد منهم، بخلق نظام مالي يسمح لهم بتسهيل الامور المالية للصليبيين والاستفادة من اموالهم.
كان فرسان تامبلار اول من اوجد نظام البنوك، حيث كان اغنياء اوروبا ونبلاؤها المشاركون في الحملات الصليبية، يودعونهم ثرواتهم لحين انتهاء مهماتهم في الحملات. وحصل فرسان تامبلار بذلك على ثروة طائلة من جراء خدماتهم "البنكية" التي طوّروها باصدار "سندات اعتماد" لحجاج المدينة المقدسة من اوروبا، بحيث كان الحجاج يودعوهم مبالغ مالية في اوروبا لقاء سندات اعتماد، يصرفونها لدى وصولهم الى القدس.
وبدأ نفوذ فرسان تامبلار يطغى على باقي الفرق المسيحية، التي بدأت الخلافات تسيطر عليها حول ادراة شؤون المدينة المقدسة. في غضون ذلك كان المسلمون يجمعون قواهم وتمكّن حاكم حلب او "زنغي حلب" المالك المنصور من احتلال "إديسا" الامر الذي حذى البابا "يوجين الثالث" من اصدار امر كنسي يدعو الى حملة صليبية ثانية.
وكما حصل خلال التحضيرات للحملة الاولى، فقد تعرض يهود اوروبا لمجازر خاصة في مناطق نهر الراين لرفضهم المساهمة المالية لانقاذ الارض المقدسة.
اراد الملك الفرنسي "لويس السابع"، ان تكون الحملة العسكرية منفصلة عن الكنيسة خصوصا بعد ان سلّم "يوجين الثالث" صليب الحملة الى الملك الالماني "كونراد الثالث" ليقود الصليبييين الى القدس.
وصل لويس الثالث قبل بقية ملوك اوروبا الى القسطنطينية واستقبله "رايموند بواتييه" الذي كان يتوقع ان يتوجها سويا نحو حلب التي تعتبر بوابة "إديسا". بيد ان الملك الفرنسي رفض وأصر على الذهاب الى القدس للحج ونأى بنفسه عن أية مشاركة عسكرية صليبية. ولكنه قتل مسموما قبل ان يصل الى المدينة المقدسة.
تجمّعت القوات الصليبية في داريا بالقرب من دمشق، وواجهوا هناك جيش المسلمين الذي اجبرهم على الانكفاء بمساعدة سلطان حلب "نور الدين" بقطعه الامدادات عن الجيش الصليبي، والقرار الذي اتخذه الصليبيون المحليون بعدم المضي بحصار دمشق والعودة الى القدس.
في عام 1135 حاصر الملك بالدوين مدينة عسقلان وتقدم نحو مصر بغية احتلال القاهرة.
اثناء ذلك بزغ نجم صلاح الدين الايوبي الكردي كقائد عسكري فذ، حيث لعب دورا بارزا في هزيمة الصليبيين في مصر وأسر قائد جيوشهم "هيو" حاكم القيسارية.
سار صلاح الدين بجيشه نحو الاسكندرية لحمايتها وبنهاية عام 1169 هزم الجيش الصليبي في دمياط.
بعد احكام سيطرته على مصر شن صلاح الدين حملة عسكرية شاملة وحاصر مدينة دير البلح التي كانت قاعدة عسكرية مهمة لفرسان تامبلار وفرسان هوسبيتالر الذين كانوا يستخدمونها لشن هجماتهم على الفاطميين.
توجهت فرقة من فرسان تامبلار من غزة للمساعدة في الدفاع عن دير البلح، لكن صلاح الدين تمكن من سحقهم واحتلال غزة ومهاجمة ايلات لتأمين ظهر جيوشه. ثم عمد بعد ذلك لتدمير حصني الكرك ومونتريال (الشوبك) في صحراء القدس، وكان السلطان الدمشقي نور الدين يسانده بشن هجمات متواصلة على الصليبيين في سوريا لمنعهم من مساندة الصليبيين في فلسطين ومصر.
عندما توفي السلطان نور الدين عام 1174 خلفه ابنه الصالح اسماعيل الذي كان في الحادية عشرة من العمر، فتم ابعاده وسيطر على سوريا حفنة من القادة الذين ادّعوا الوصاية على السلطان الصغير. كان صلاح الدين في تلك الاثناء منهمكا بقمع تمرد النوبيين مع بعض الارمن في صعيد مصر، وحين تم له ذلك قصد دمشق المدينة التي نشأ فيها، فدخلها وسط تكريم غير مسبوق من الدمشقيين بعودة ابن مدينتهم البار.
عيّن صلاح الدين أخاه تاج الدين حاكما على دمشق، وخرج ليسيطر على حماة وحلب بعد افشاله محاولة لاغتياله.
توجّه حاكم طرابلس الصليبي ريمون، لمواجهة صلاح الدين عند النهر الكبير شمال لبنان، لمنعه من التقدم جنوبا، بيد ان القائد المسلم فضّل غزو حمص واحتلال قلعتها.
بعد انتصاراته العسكرية العديدة، نصّب صلاح الدين نفسه ملكا، ولقي ذلك ترحيبا كبيرا من الخليفة العباسي في بغداد الذي أطلق عليه لقب سلطان مصر وسوريا.
عندما ارسل الصليبيون جيشا قويا لاحتلال حصن إدلب، اتخذ صلاح الدين من ذلك حجة لنقض المعاهدة القائمة بينه وبين الصليبيين وسار الى عسقلان (عروس سوريا) وسيطر في طريقه على مدينتي اللد والرملة ووصل الى ابواب القدس.
أثناء محاصرته للقدس، طلب منه الملك بالدوين ان يسمح لفرقة من فرسان تامبلار بالدخول الى عسقلان، غير انه فوجيء بمهاجمتهم له عند مدينة تل الجزر قرب الرملة. وكانت المفاجأة شديدة ضعضعت جيشه واضطرته الى التراجع للحدود المصرية.
عام 1178 قرر صلاح الدين مهاجمة الصليبيين مرة اخرى، فأخذ حمص وحماة وأسر الكثير من الصليبيين وامر بقطع رؤوسهم.
خطط الصليبيون لمفاجأة صلاح الدين في شرق مرتفعات الجولان، ولاحق الملك بالدوين بغباء جيش المسلمين، مغترا بانتصاره السابق عليهم، لكنه مني بهزيمة نكراء عند مدينة القنيطرة. وفي السنة اللاحقة أقام بالدوين مركزا (مخفرا) عسكريا على طريق الشام لتحصين الممرعلى نهر الاردن، عرف بممر يعقوب أو بنات يعقوب وكان يسيطر بواسطته على سهل بانياس.
عرض صلاح الدين اموالا كثيرة على بالدوين لالغاء ذلك المركز باعتبار انه اهانة كبيرة للمسلمين، غير ان اصرار بالدوين على الرفض واصراره على ابقاء المركز حملا صلاح الدين على ازالة المركز بنفسه وكان يتحصّن به خيرة فرسان تامبلار، فدمّره وأسر العديد من الفرسان.
قبل صلاح الدين عام 1180 هدنة عرضها عليه الملك بالدوين، واستغل فترة الهدنة بقمع اعدائه في الداخل، فتوجه الى دمشق وحاصر بيروت وتمركز في وادي البقاع ثم توجه لمعالجة امور استجدت في منطقة ما بين النهرين.
في طريقه نحو الفرات، أخذ صلاح الدين إديسا، وسروج، والرقة، وقرقيسيا والنسيبين. واثناء محاصرته للموصل، وصلته رسالة ان الصليبيين وجّهوا سفنهم الى خليج العقبة وغزو المدن والقرى الواقعة على ساحل البحر الاحمر. فأمر قائد اسطوله لؤلؤة وهو من اصول ارمنية لفك حصار الصليبيين وتدمير سفنهم.
قطع الصليبيون طريق الحج الى مكة، وتواصلت اعتدائاتهم على الحجاج المسلمين، فوجّه صلاح الدين اسطوله لحصار بيروت في رد منه على تهديد الصليبيين بمهاجمة مكة والمدينة.
حسم صلاح الدين الامر في معركة حطين، وكبّل الصليبيين هزيمة نكراء وكلل نصره باحتلال مدينة القدس عام 1187.
كانت معركة حطين معركة فاصلة في تاريخ الحملات الصليبية حيث احتل المسلمون بعدها جميع المدن الصليبية. وحين تمت السيطرة على مدينة القدس، جمع صلاح الدين اليهود فيها وطلب منهم استعادة ممتلكاتهم ومراكزهم في المدينة.
تابع
ريتشارد قلب الاسد وصلاج الدين