ماضي، حاضر ومستقبل مهد الحضارات الحلقة (8)
الحرب الصليبية الاولى
رأى بعض ملوك أوروبا والكنيسة الغربية أن بقاء مدينة القدس تحت السيطرة الاسلامية قد طال أمده، وحان الوقت لكي تنضم المدينة المقدّسة الى المرجعيات المسيحية وبخاصة كنيسة روما.
وسرعان ما سرت شائعات بأن مدينة القسطنطينية ستسقط بيد المسلمين، واذا ما حصل هذا الامر فسيكون مصير المسيحيين في الشرق الاوسط مهددا ومستقبلهم في المنطقة مجهولا. لذلك بدأ التنادي في أوروبا لحرب مقدّسة لتحرير القدس من أيدي المسلمين وانقاذ القسطنطينية.
فكرة الحرب المقدّسة كان وراءها بعض المتشدّدين من المسيحيين في اوروبا الغربية وخاصة فرنسا، عندما نادوا بالزحف المقدّس لتحرير القدس، وخاطوا صلبانا حمرا حول ستراتهم واطلقوا على أنفسهم لقب الصليبيين.
واثناء التحضيرات للحملة الصليبية الاولى عام 1096، كثرت أعمال العنف ضد يهود اوروبا وخاصة في فرنسا وألمانيا، بسبب تسريب شائعات بأن اليهود والمسلمين هم أعداء المسيح، وأن أعداء المسيح يجب محاربتهم الى ان يتحوّلوا الى الديانة المسيحية. وكانت تلك الشائعات ترتكز على الوفاق الحاصل بين المسلمين واليهود في مدينة القدس وحصول بعض اليهود على مراكز مهمة في ادارات الدول الاسلامية المتعاقبة، مع أن المسيحيين في المنطقة كانوا ينعمون بمثل تلك المعاملة.
أما في بلاد الشام والاناضول وفلسطين، فقد كانت الحروب متواصلة بين الاتراك والسلاجقة للسيطرة على الاناضول وسوريا. وكانت المملكة السلجوقية مقسّمة الى دويلات منفصلة عن بعضها البعض.
وكانت مصر وفلسطين تحت سيطرة الحكم الفاطمي الشيعي، الذي فقد السيطرة على القدس عام 1073 بعد سيطرة السلاجقة عليها، الا ان الفاطميين استردوا المدينة عام 1098 وذلك قبل فترة قصيرة من وصول الصليبيين اليها.
وفي اوروبا، استقرت جماعات من سلالة الفايكينغ تدعى النورماند في جزء من فرنسا سمّي فيما بعد " النورماندي". وكان النورماند يشتهرون بنزعتهم الروحانية وتطرّفهم المسيحي. وسرعان ما سيطروا على "صقلية" وجنوب ايطاليا وشكّلوا مملكتهم هناك، ثم غزوا "انجلترا" عام 1066 وأخضعوها لفرنسا مركز سلطتهم. وتوجّهوا ليسيطروا على بقية المناطق في المملكة البريطانية.
شجّعت النزعة الصليبية لدى النورماند الكنيسة لتطلق حملة نداء لحرب مقدّسة، تحت عنوان حماية القسطنطينية وتحرير القدس والاراضي المقدّسة من المسلمين. وفي عام 1096 شكّل جيش من النورماند بقيادة ثلاثة من كبار القادة هم روبرت وهيو وغودفري. وقاد ريمون سان غيل جيشا من جنوب فرنسا وايطاليا وزحفوا جميعهم نحو القدس ووصلوا الى القسطنطينية عام 1097 بعد رحلة طويلة واجهوا خلالها مشقّات جمّة.
حاصر الصليبيون مدينة "نيسيا" (حاليا إيزنيك التركية) عاصمة السلاجقة الاتراك التي كان يحكمها السلطان أرسلان. وعاون الصليبيون في حصارهم مجموعة من الجنود البيزنطيين والاسطول البيزنطي الذي أحكم حصاره من البحر. واستسلمت "نيسيا" الى الامبراطور البيزنطي "اليكسيوس" الذي منع الصليبيين من نهب المدينة، الامر الذي تبعه عواقب وخيمة فيما بعد.
زحف الصليبيون نحو انطاكيا، غير ان السلطان ارسلان استطاع ان يجمع جيشه ويكمن لهم عند موقع " دوريلايوم". ولكن القائد ريمون سان غيل فاجأ الاتراك وأجبرهم على الفرار.
لم يكن كمين الاتراك ناجحا بيد انه أفقد الصليبيين امدادات الطعام والماء التي شحت بشكل كبير، الى جانب البرد القارس الذي داهم الجنود. عند ذلك قرر الصليبيون ضم مملكة "إيديسّا" (الرها) الارمنية التي كانت حدودها تمتد من "كيليكيا أو قلقيلية" في قلب الاسكندرون الى الفرات في وسط الاراضي الاسلامية، فأمّن الصليبيون بذلك خاصرة قوية لهم من الناحية العسكرية.
بدأ حصار "أنطاكيا" في أكتوبر عام 1097 وامتد كل فترة فصل الشتاء، حين بدأ الصليبيون يعانون مرة ثانية من شح في المواد الغذائية والتموينية ومياه الشرب، فمات كثير من الجند بسبب الجوع او العطش بما فيهم قادة عسكريين وروحيين وفضّل عدد منهم العودة الى ديارهم في اوروبا.
وجد الصليبويون ثغرة في جدار احد بروج انطاكية فتحها لهم ظابط ارمني اعتنق سابقا الدين الاسلامي وصار يحارب مع السلاجقة، فدخل الصليبيون المدينة ليفاجئوا بالقائد التركي "قيربوغا" أو "كريغا" المشهور ببراعته العسكرية، يحاصرهم من خارج المدينة.
نجح الصليبيون بفك الحصار عنهم والخروج من المدينة، غير انهم أمضوا شهورا بعدها يحاولون توحيد صفوفهم ليأخذوا بعد ذلك "انطاكيا" بقيادة "بوهيموند" ويزحف الباقون نحو القدس تحت إمرة ريمون سان غيل ووصلوا أسوار المدينة أوائل عام 1099.
كان حاكم القدس في ذلك الوقت "إفتخار الدولة" الفاطمي، فقام بطرد جميع المسيحيين من المدينة وعزل الريف عن المدينة.
قاد بعض الكهنة مسيرة مشوا فيها حفاة وأنشدوا خلالها الاناشيد الدينية وحملوا صلبانا ورموزا مسيحية، وسار ورائهم الجيش الصليبي نحو المدينة في خطى بطيئة وكأنهم في موكب رسمي. وبعد ستة أيام استطاعوا اقتحامها واحتلالها.
دخل الصليبيون الى المسجد الاقصى وقتلوا من وجدوا فيه، ثم توجّهوا الى المعبد اليهودي الذي لاذ اليه يهود المدينة، فأحرقوه بمن فيه.
واستطاع "افتخار الدولة" ابرام اتفاق مع "سان غيل" أمن بموجبه رحيله مع حاشيته عن المدينة. وأعلن الصليبيون من كنيسة القيامة تأسيس مملكة القدس وتعيين "غودفري" ملكا روحيا عليها.
حاول الفاطميون استعادة القدس غير انهم فشلوا وتراجعوا الى مصر. وعاد معظم الجنود الصليبيين الى بلادهم بعد انتهاء الحملة بتحرير القدس.
حكم "غودفري" المدينة عاما واحدا وخلفه بعد موته شقيقه "بالدوين" ملك "إديسا" والذي كان اول من حمل لقب ملك القدس.
عمل الملك "بالدوين" على تأسيس فريقين من العسكر المتدينين: فرسان تامبلار وفرسان هوسبيتالر.
ونتيجة للحملة الصليبية الاولى، أسس الصليبيون دولا خاضعة لهم في اديسا وانطاكية وطرابلس في تركيا وسوريا وفلسطين وصارت تلك الدول حليفة لهم ضد اي عدوان من جيوش المسلمين.
تابع
فرسان تمبلار وصلاح الدين