ابن الست وابن الجارية
عندما لعبت الامم اللعبة، وأسقطت دولة بطولها وعرضها من الخريطة والارض، وشرّدت شعبها، والذين لم يستطيعوا شدّوا الرحال الى البلاد المجاورة، وسكنوا تحت القمع، وسلبت منهم اراضيهم وبيوتهم وممتلكاتهم، وأحيانا كثيرة حقّهم بالحياة.
وعندما رسّخت لعبة الامم، دولة مكان دولة وشعبا مكان شعب، أتت به من مختلف انحاء العالم بتغطية اعلامية هائلة، كرّست الحقد والكراهية بين الشعبين وبين الاديان، وأمعنت بإثارة النعرات الطائفية والمذهبية، واثارة القلاقل في معظم بلاد الشرق الأوسط العربية والاسلامية.
وعندما ربت الاجيال من مختلف الشعوب، على الحقد والبغض، وتقلّبت الحالات السياسية في كل بلدان الشرق الاوسط، بما فيهم الدولة المستحدثة، مع فارق جذري، هو ان الاجيال في اسرئيل نمت على الرفاهية والمال ورغد العيش والامل بمستقبل مشرق، الذي كان يحقنهم به ملوك لعبة الامم. وأجيال باقي الدول ربت على الاختلافات والفقر والمؤامرات واليأس الذي كان يتآكلهم ويدفع بهم الى اعتماد انماطا مختلفة سياسيا وفكريا واجتماعيا، والهرب من واقعهم الى أي واقع آخر يستطيعون منه متابعة التنفس ولو كان يستنشق غبارا يعلّ رئتيه، ويرهق حاله وينزله في متاهات اليأس الآعظم وعدم الاطمئنان أكثر فأكثر.
ولكي تشلّ حركة وفكر تلك الشعوب تماما، فقد أغرقوها بعدة حروب، أقلّ ما فعلته أنها أخّرت تقدّم دولهم أجيالا الى الوراء وجعلتهم بكل فئاتهم وميولهم وطوائفهم وطبقاتهم، منهمكين حائرين، سكارى وما هم بسكارى، يمشون لا يدرون الى اين، ولا يستطيعون الوصول الى مكان، وكأنهم هم من وضع تركيبة سياسية اجتماعية لا يوجد لها قاعدة ولا أساس.
أما الشعب الفلسطيني المشرّد المظلوم المحبط والمسلوب الوطن، فإن أجياله نمت في ظلمات من وراء ظلمات، يبحث عن بارقة نور فلا يجدها الا باعتماد سبيل المقاومة في كل اشكالها وانواعها لاسترجاع وطنه السليب وحقه المخطوف وكرامته المجروحة.
غير ان ملوك اللعبة استطاعوا ان يخترقوا حتى المقاومة الفلسطينية، كما ان سذاجة وعناد وتصلّب وعنجهية وغطرسة معظم قادة المقاومة ساعدت على الاختلاف والانقسام وصولا حتى الى الاحتدام والاقتتال – الأخ يقتل أخاه.
والذي يمعن النظر في لعبة الأمم، يرى أنها اساسا مبنية على معادلة ابن الست وابن الجارية.... وللوضوح والايضاح، فإن خليل الله ابراهيم قد أنجب ولدا من سارة، سيدة المجتمع الكريمة، وولدا من جاريتها هاجر.
ومنذ أن غضبت سارة من هاجر وحثّت ابراهيم على طردها وتشريدها هي وابنها.
ومنذ أن نجحت هاجر في ايجاد مأوى لها ولابنها، بنى فيه ابراهيم بيتا لله فيه صار محجا للعالمين.
فإن حكاية تشريد ابن الجارية باتت عادة الاجيال الذين يظنون انفسهم انهم اولاد الست.
هذه هي ببساطة كل القصة، والظاهر ان الحقد والضغينة والكراهية تمكنت من اصحابها، فجعلتهم يفتكون فتكا ويقتلون بدم بارد، دون هم ولا غم ولا حياء...
وكيف يرتدعون وهناك تغطية عالمية لأعمالهم... وإن كان بدأ يظهر بعض حياء...
اقتلوا ولكن لا تقتلوا الكثير...
دمّروا ولكن ابقوا بعض المباني....
لا تقتلوا الصغار كلهم...
هؤلاء الفلسطينيون يطلقون عليكم الصواريخ.. حقكم الدفاع عن أنفسكم.. ولكن لا تمطروهم بصواريخ كثيرة ... مئات فقط...
ومن الجهة الاخرى، فإن الدول العربية والاسلامية في متاهات آخرى.. وفي حيص بيص لا أول له ولا آخر.
وكل الاخوة في عداء عبثي وثرثري مقيت الى درجة القرف .... غير مقيمين للانسان وزنا، ولا للموت احتراما... ولا للمجازر اعتبارا...
منهم من يريد تقديم المال ظنا بأن المال يحل قضية..
ومنهم من يشترط شروطا ظنا بأنه ينال مكاسبا...
ومنهم من يعارض فقط من أجل المعارضة خدمة لجهات أخرى...
والشعب المسكين في غزة يتلقى انواعا مختلفة من الموت الزؤام ومن لا يموت بالقذائف الاسرائلية، فإنه حتما سيموت من الجوع أو البرد أو الخوف.
لذلك، فأنا أرى أن كل هذه المعاناة تنتهي، عندما يبدأ ملوك اللعبة بتقبّل حقيقة ان السيدة هاجر هي سيدة كريمة، وابنها نبي ورسول، ونذكّر بأن عيسى كان نجّارا، ومن قبله داود كان صبيا يخدم راعي غنم، وهما مع ذلك اختيار الله لتأسيس أمما وحضارات عريقة.
نأمل من ملوك لعبة الامم أن يفلتوا من التخدير الذي عفّن فكرهم وشعورهم وحسّهم، ويتنشقوا الواقع الصحيح لينتعشوا وينعشوا به أيضا حكام الدول الاخرى.
سامي الشرقاوي